من المقرر أن يجتمع البرلمان اللبناني في التاسع من يناير/كانون الثاني في محاولة أخرى لانتخاب رئيس. ويأتي التصويت وسط ضغوط مكثفة من الولايات المتحدة وفرنسا والمملكة العربية السعودية لاختيار شخصية، من وراء ظهر الشعب اللبناني، لإدارة البلاد بما يخدم مصالحها الجيواستراتيجية.
إن وفودهم إلى بيروت هذا الأسبوع عازمة على الاستفادة من الضعف الكبير الذي تعانيه إسرائيل في القوى العسكرية والسياسية لحزب الله، ووقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، وانهيار نظام الأسد في سوريا على يد هيئة تحرير الشام، حليفة واشنطن الإسلامية. إنهم يسعون إلى تشكيل حكومة مؤيدة بشكل صريح للولايات المتحدة وإسرائيل وإنهاء نفوذ إيران الطويل الأمد في البلاد عبر حزب الله وحلفائه السياسيين.
تم تشكيل حزب الله، '، في العقد التاسع من القرن الماضي باعتباره 'مقاومة إسلامية' مكرسة 'للنضال المسلح' ضد إسرائيل، وسط احتلال إسرائيل للبنان خلال الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990 و كانت بمنزلة حرب بالوكالة بين القوى الإقليمية والإمبريالية المتنافسة في أرض لنبان. وبدعم من سوريا وإيران، استمد حزب الله دعمه داخل لبنان من الجماهير الشيعية الفقيرة التي قدم لها خدمات الرعاية الاجتماعية الحيوية. دافع حزب الله عن النقابوية والأبوية والظلامية الدينية كثقل موازن للصراع الطبقي. وشكل حزب الله مع حلفائه الشيعة والفلسطينيين أكبر كتلة في النظام السياسي المنقسم القائم على الطائفية في لبنان.
ظلت الدولة الصغيرة، التي كانت لفترة طويلة بيدقاً في المكائد الأوسع للقوى الإمبريالية والإقليمية، بدون رئيس لأكثر من عامين بعد انتهاء ولاية ميشال عون في أكتوبر 2022. وهذا ترك البلاد دون حكومة فاعلة. وبرئاسة نجيب ميقاتي، أغنى رجل في لبنان، لم تتمكن الحكومة من فرض 'الإصلاحات الاقتصادية' التي طالب بها صندوق النقد الدولي والبنوك الدولية مقابل إعادة هيكلة ديون البلاد، وسط الإفلاس وارتفاع التضخم والفقر الجماعي الناجم عن الإفلاس وعن نهب ثروات البلاد من قبل حفنة من المليارديرات الذين أداروا لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية في عام 1990.
ومن المقرر أن يزور مبعوث الرئيس الأمريكي جو بايدن، عاموس هوشستين، بيروت، إلى جانب ممثلين عن المملكة العربية السعودية وقطر ومصر. ويأتي ذلك في أعقاب الزيارات الأخيرة التي قام بها مشرع القوات اللبنانية بيار أبو عاصي وقائد الجيش اللبناني العماد جوزيف عون (لا علاقة له بالرئيس السابق)، مرشح واشنطن المفضل للرئاسة ، إلى المملكة العربية السعودية.
القوات اللبنانية، هي الميليشيا المسيحية السابقة التي سيطرت خلال ذروة الحرب الأهلية في العقد التاسع من القرن العشرين، بدعم من إسرائيل، على جزء كبير من الأراضي ذات الأغلبية المسيحية في البلاد، لكنها أصبحت الآن حزباً سياسياً تدعمه المملكة العربية السعودية. ويرأس عون القوات المسلحة اللبنانية في جنوب لبنان حيث يتولى مهمة نزع سلاح حزب الله بموجب شروط وقف إطلاق النار الذي فرضته واشنطن بين إسرائيل وحزب الله. وقد أيد الحزب التقدمي الاشتراكي الذي يتزعمه الزعيم الدرزي وليد جنبلاط مؤخراً ترشيحه.
ويدعم حزب الله، الذي يقوده الآن نعيم قاسم، حليفه سليمان فرنجية، الذي كانت له علاقات وثيقة مع الرئيس السوري الأسد وإيران. ومع ذلك، أشار نبيه بري، رئيس مجلس النواب الذي يتحالف حزبه مع حزب الله، إلى أن حزب الله مستعد لأن يكون أكثر 'مرونة'.
وقيل إن المرشح المحتمل الآخر هو جهاد أزعور، أحد كبار المصرفيين في صندوق النقد الدولي.
وفي الشهر الماضي، قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بزيارة دولة لمدة ثلاثة أيام إلى الرياض، وهي الأولى التي يقوم بها رئيس فرنسي منذ عام 2006، حيث طلب المساعدة السعودية في إعادة إعمار لبنان. لقد أوضحت المملكة العربية السعودية وقطر أنهما لن تساعدا في إعادة بناء لبنان إذا ظل حزب الله القوة المهيمنة في البلاد، مما يمنح من يصبح رئيساً ورئيساً للوزراء سلطة كبيرة على حزب الله والقدرة على الحد من نفوذه السياسي.
وتقوم الولايات المتحدة ببناء سفارة جديدة محصنة بقيمة 1.2 مليار دولار على موقع مساحته 43 فداناً بالقرب من بيروت، والغرض المعلن منها هو مواجهة 'محور المقاومة'، أي إيران. ويشير حجمها، الذي لا يتناسب على الإطلاق مع حجم البلاد، إلى المصالح الجيوسياسية الأمريكية في لبنان، بموقعه الاستراتيجي ومصادر الغاز والنفط المكتشفة حديثاً تحت شرق البحر الأبيض المتوسط. بعد تسوية نزاع حدودي بحري طويل الأمد بين إسرائيل ولبنان، بدأ كونسورتيوم فرنسي وإيطالي وقطري الحفر في عام 2023، في حين بدأت إسرائيل بالفعل في استخراج الغاز.
وقد مولت الولايات المتحدة قوات الأمن اللبنانية بما يصل إلى 3 مليارات دولار منذ عام 2006 كجزء من برنامج مساعدات بقيمة 10 مليارات دولار للبلاد، وفقاً لجلسة استماع في الكونغرس عام 2020، وهو مبلغ يطابق إلى حد كبير مبلغ دفعته إيران. وفي كانون الثاني/يناير 2023، أعلنت إدارة بايدن أنها بالإضافة إلى توفير المعدات العسكرية، ستدفع أيضاً معظم رواتب الجيش اللبناني بالدولار الأميركي، بتكلفة 72 مليون دولار، بعد انهيار العملة اللبنانية. ولدى الولايات المتحدة قوات متمركزة في مهبطين جويين عسكريين لبنانيين ليسا بعيدين عن بيروت حيث شوهدت طائرات عسكرية كبيرة من طراز C130 تحط هناك.
نتائج الحرب الأمريكية/الإسرائيلية ضد حزب الله
بدأت حرب إسرائيل ضد حزب الله إلى جانب حرب الإبادة الجماعية التي شنتها على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ظاهرياً رداً على دعمها للفلسطينيين. وشنت ضربات جوية شبه يومية ضد قوات حزب الله وقواعده وأسلحته في لبنان، وكذلك في سوريا، حيث لعب دوراً رئيسياً، إلى جانب إيران وروسيا، في دعم نظام الأسد المنهار الآن.
وكان هدفها السياسي نيابة عن الإمبريالية الأمريكية هو القضاء على حزب الله كقوة عسكرية وسياسية في كلا البلدين كجزء من استعدادات واشنطن الأوسع للحرب ضد إيران، وهو عنصر حاسم في صراعها الوجودي ضد روسيا والصين.
في الوقت نفسه، استهدفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني والميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا واليمن، مستهدفة عملياتها ومراكز الاستخبارات والصواريخ والقذائف ومرافق تخزين الطائرات بدون طيار و'الخدمات اللوجستية والعسكرية مرافق سلسلة توريد الذخيرة'. وبرر البنتاغون ذلك بالادعاء بأنه كان هناك أكثر من 250 هجوم على قواعده في سوريا والعراق منذ أكتوبر 2023، مما يشير إلى أن هناك مواقع عسكرية أمريكية في المناطق النائية في البلدين أكبر بكثير مما تم الاعتراف به رسمياً. ومن المفترض أن هذه القواعد أُقيمت إبان الحرب ضد داعش، ولكنها تستهدف الآن إيران والجماعات المدعومة من إيران.
في فبراير/شباط 2024، أمر الرئيس الأمريكي بايدن بضربات جوية على الجماعات المدعومة من إيران في العراق وسوريا وكذلك ضدالمقاتلين الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، الذين شنوا هجمات على السفن الأمريكية والبريطانية تضامنا مع شعب غزة. توضح هذه الإجراءات أن العمليات الأمريكية/الإسرائيلية في الشرق الأوسط ليست أقل من حرب للقضاء على حلفاء إيران وتطويقها وإثارة أعمال انتقامية ضد القوات الأمريكية التي يمكن استخدامها كذريعة لحرب شاملة ضد طهران.
في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، دمرت إسرائيل أنظمة الاتصالات الخاصة بحزب الله، ففجرت مئات من أجهزة الاستدعاء( بايجر) وأجهزة الاتصال اللاسلكي التي استخدمها عناصره وأصابت الآلاف قبل شن غزو بري مدمر للبنان لمدة شهرين.
قتلت القوات الإسرائيلية قادة الصفين الأول والثاني في حزب الله، بما في ذلك حسن نصر الله والقائد الكبير علي كركي، في غارة جوية على بيروت، في انتهاك وقح للعديد من قوانين الحرب الدولية، بما في ذلك حظر الاغتيالات والقصف العشوائي و قصف المناطق المدنية. وقتلت إبراهيم عقيل، وهو ناشط بارز آخر في حزب الله، في غارة أخرى في الشهر نفسه، وخليفة نصر الله وابن عمه هاشم صفي الدين في أكتوبر/تشرين الأول. ضرب الجيش الإسرائيلي المنشآت المالية والإدارية والإعلامية لحزب الله وقصف الكثير من مخزوناته من الأسلحة والصواريخ في لبنان وسوريا، بما في ذلك دمشق والبوكمال بالقرب من الحدود العراقية، والقصير، وريفي حمص وحماة.
تسبب الغزو البري الذي شنه الجيش الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر لجنوب لبنان في دمار واسع النطاق، ولم يُقال عنه سوى القليل. وأجبر أكثر من 1.2 مليون، بينهم 400 ألف طفل، من سكان لبنان البالغ عددهم 6 ملايين نسمة على الفرار من منازلهم. وأدى الهجوم إلى مقتل قرابة 4000 شخص، معظمهم من المدنيين، وإصابة أكثر من 16000، وفق وزارة الصحة. ودمر ما يقرب من 250 ألف منزل كلياً أو جزئياً، وتضرر 20 ألف مبنى عام وأغلقت مئات الشركات الصغيرة والمتوسطة أبوابها.
ووفقاً للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (اليونسكوا)، فإن هذا الدمار شمل تدمير 13 مستشفى و130 سيارة إسعاف، وإغلاق 100 مركز للرعاية الصحية الأولية، مما ترك قطاعات واسعة من السكان دون إمكانية الوصول إلى الرعاية الأساسية. علاوة على ذلك، فإن اكتظاظ الملاجئ (908 من أصل 1095 ملاجئ تعمل بكامل طاقتها) يؤدي إلى تفاقم خطر الإصابة بالأمراض المعدية واحتياجات الرعاية المركبة.
وقُدرت تكلفة إعادة الإعمار بقرابة 13 مليار دولار، نصفها تقريباً من الأضرار المباشرة والباقي من الآثار الاقتصادية الأوسع. و تجاوز هذا بكثير ما حدث في الحرب الأخيرة بين إسرائيل وحزب الله في عام 2006.
وهذا ليس الرقم النهائي، إذ واصلت إسرائيل غاراتها الجوية على لبنان في تحدٍ لوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً والانسحاب الإسرائيلي الذي فرضته واشنطن في أواخر نوفمبر. وزعمت بيروت أن هناك 300 انتهاك للهدنة.
كانت شروط وقف إطلاق النار، التي تم توقيته بشكل ملائم لتنتهي مع تنصيب الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في وقت لاحق من هذا الشهر، بمثابة هزيمة مدمرة لحزب الله، ومهد الساحة أمام هيئة تحرير الشام، حليفة واشنطن الإسلامية، للسيطرة على سوريا و دمشق. وتضمن الاتفاق، الذي دعا حزب الله إلى التخلي عن مواقعه المحصنة في جنوب لبنان وسحب قواته إلى شمال نهر الليطاني، رسالة أميركية تمنح إسرائيل الحق في 'القيام بعمل عسكري' إذا 'بدا أن حزب الله يعد لهجوم عسكري'. وهذا منح تل أبيب وواشنطن الضوء الأخضر لاستئناف الأعمال العدائية عندما ترى ذلك مناسباً.
ونقلت صحيفة هآرتس الإسرائيلية اليومية عن مصادر عسكرية قولها إن الجيش الإسرائيلي يعتزم البقاء في جنوب لبنان بعد فترة الستين يوماً 'إذا كان الجيش اللبناني غير قادر على الوفاء بالتزاماته الواردة في الاتفاق لبسط سيطرته على الجنوب بأكمله'.
والأهم من ذلك، أن وقف إطلاق النار ساهم في تحرير إسرائيل من الهجمات على حدودها الشمالية بينما تواصل شن حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة واحتلال الأراضي السورية، في حين واصلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة عملياتهما ضد أهداف مدعومة من إيران في اليمن والعراق وسوريا.
إفلاس الأنظمة القومية البرجوازية في الشرق الأوسط
في عام 2006، في أعقاب الحرب التي شنتها إسرائيل على حزب الله ولبنان لمدة شهرين، تحرك الحرس الثوري الإيراني بسرعة للمساعدة في إعادة الإعمار. لكن اليوم، مع تعرض الاقتصاد الإيراني لمتاعب عميقة بسبب العقوبات الأمريكية وفقدان حليفها المهم في دمشق، لن يكون هناك أموال من طهران للمساعدة في إعادة البناء.
وعلى نحو مماثل، أدى فقدان تمويل حزب الله وأسلحته التي تم نقلها من إيران عبر سوريا إلى شل قدرته على تمويل عملياته، بما في ذلك أنشطة الرعاية الاجتماعية، والحفاظ على نفوذه السياسي. هناك تقارير تفيد بأن سكان الضاحية، حيث تم تدمير أكثر من 400 مبنى وتضرر 1500 مبنى، يشعرون بالإحباط بسبب تأخر حزب الله في دفع التعويضات على الرغم من وعد زعيم حزب الله نعيم قاسم بتقديم 77 مليون دولار للعائلات الشيعية المتضررة من الحرب مع إسرائيل.
وقد بدأ أولئك الذين فروا من منازلهم بالعودة، لتقابلهم في المناطق الأكثر تضرراً الجرافات التي تعمل على إزالة الأنقاض والعائلات التي تبحث عن أقاربها المفقودين تحت الأنقاض. كما إن الكهرباء والماء واستقبال الهاتف المحمول والإنترنت غير متوفرة. ولم يتمكن الكثيرون من الوصول إلى قراهم في الجنوب بسبب القيود العسكرية الإسرائيلية، وما زال أكثر من 70 قرى خارج نطاق الوصول. وقد تم تدمير حوالي 40 قرية بالقرب من الحدود مع إسرائيل بسبب سياسة الأرض المحروقة التي تنتهجها إسرائيل.
أظهر رد فعل أنظمة الشرق الأوسط على الهجوم على لبنان، بما لا يقل عن الإبادة الجماعية في غزة، مرة أخرى إفلاس الأنظمة القومية البرجوازية. وفي حين أن البعض، مثل مصر والمملكة العربية السعودية، هم حلفاء رئيسيون للولايات المتحدة في الوقت الذي تنظم فيه عملية تقسيم جديدة للشرق الأوسط، فإن آخرين، مثل إيران، يائسون للتوصل إلى نوع من التسوية التفاوضية التي تضمن مستقبلهم بما في ذلك ضد الصراعات الداخلية.
أثبتت تلك الأنظمة أن مكافحة الإمبريالية والحروب والفقر تعني رفض جميع أشكال القومية التي تقسم الطبقة العاملة في المنطقة. لقد اندلعت احتجاجات حاشدة متكررة في لبنان، خلال الربيع العربي عام 2011، وفي عامي 2015 و2019-2020 ، ضد النخبة السياسية التي فقدت مصداقيتها والمختلة والتي فشلت في معالجة الفقر والمصاعب المتزايدة. لكن لا يمكن تلبية مطالبهم، مثل مطالب العمال الذين ثاروا في أماكن أخرى، خارج النضال الذي تقوده الطبقة العاملة من أجل الإطاحة بالرأسمالية وبناء الاشتراكية على المستوى العالمي.