في ديسمبر/كانون الأول الماضي، احتفلت الولايات المتحدة، وحلفاؤها الإقليميون ، بهزيمة نظام الرئيس السوري بشار الأسد على يد هيئة تحرير الشام، فرع تنظيم القاعدة المُصنّفة من قِبل الولايات المتحدة منظمة إرهابية أجنبية.
رصدت الولايات المتحدة مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يقبض على زعيمها الجهادي، أحمد الشرع، الذي تولى الرئاسة. فبين عشية وضحاها، أصبح الشرع وهيئة تحرير الشام مُفضّلَي وسائل الإعلام الغربية، مُعلنَين عن حلول الديمقراطية والسلام في سوريا.
تنظر واشنطن إلى الشرع وهيئة تحرير الشام، اللتين دعمتهما الولايات المتحدة وتركيا، كحصن منيع ضد عودة نفوذ إيران وروسيا إلى سوريا. وستُشكل السيطرة على سوريا عنصراً أساسياً في مواجهة النفوذ الاقتصادي المتنامي للصين في الشرق الأوسط، و في إعادة ترسيخ مكانة الولايات المتحدة كقوة اقتصادية وسياسية خارجية مهيمنة في الشرق الأوسط، بما تمتلكه من موارد طاقة وطرق تجارية استراتيجية مهمة إلى الكتلة الأوراسية.
ناهيك عن أن المصالح المتعارضة للقوى الإمبريالية والقوى الإقليمية، إسرائيل وتركيا ودول الخليج، التي دعمت الشرع في مساعيه للسيطرة على سوريا، من شأنها أن تُشعل موجات أخرى من العنف الطائفي الدموي، وتُعجّل بتفتيت البلاد، الأمر الذي قد يُشعل بدوره حرباً إقليمية شاملة.
حكومة الشرع
جاء صعود حكومة الشرع المفاجئ إلى السلطة في دمشق، بعد حربٍ دامت 13 عاماً لتغيير النظام، بتمويلٍ وتسليحٍ ودعمٍ من دول الخليج وتركيا والولايات المتحدة وإسرائيل، في أعقاب حرب الإبادة الإسرائيلية المدعومة أمريكياً ضد الفلسطينيين في غزة. في الوقت نفسه، شنّت إسرائيل هجماتٍ على حزب الله في لبنان، الحليف الإيراني الذي ساعد الأسد، إلى جانب إيران وروسيا، في الحفاظ على السلطة في سوريا، وتصاعدت الهجمات إلى حربٍ شاملة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، تسببت في أضرارٍ بلغت 12 مليار دولار، بالإضافة إلى قصفٍ جويٍّ ثلاث مراتٍ أسبوعياً على سوريا بهدف إضعاف الوجود الإيراني في البلاد.
استغل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الهجوم الفلسطيني على إسرائيل في أكتوبر/تشرين الأول 2023 ذريعةٍ لحربٍ مُخططٍ لها منذ فترةٍ طويلةٍ لإضعاف حلفاء إيران، كانت جزء من مشروع واشنطن الأوسع المتمثل في 'شرق أوسط جديد'. و تبع ذلك شن واشنطن وتل أبيب حرب غير مبررة على إيران في يونيو/حزيران، في الوقت الذي كان من المفترض أن تجري فيه إدارة ترامب مفاوضات سلام مع النظام الديني البرجوازي في طهران.
كانت دمشق العاصمة الإقليمية الوحيدة التي ما أدانت القصف الإسرائيلي المكثف على إيران. وارتبط ذلك بتحالف حكومة الشرع مع واشنطن ودول إقليمية مثل تركيا والإمارات وقطر والسعودية ضد إيران وحزب الله في لبنان، اللذين حاربت ضدهما في سوريا، كوسيلة لتعزيز نفوذها داخلياً. ولتحقيق هذه الغاية، سعت دمشق إلى التوصل إلى تسوية مع إسرائيل، بما في ذلك كبح جماح الفلسطينيين في سوريا وتشديد السيطرة على الحدود مع لبنان لمنع تهريب الأسلحة إلى حزب الله، بل وطرحت تطبيع العلاقات مع إسرائيل.
لا تقل سياسات الشرع الداخلية رجعية، إذ أعطت أفضلية للشركات الكبرى، ولخصخصة البنية التحتية العامة، والمنافسة في السوق الحرة، وللشريعة الإسلامية. أعلنت الحكومة المؤقتة عن خطط لتسريح ما بين ثلث ونصف جميع العاملين في القطاع العام، مدّعيةً أن الكثيرين تلقوا رواتب دون عمل، وإلغاء شرط تسجيل الشركات لعمالها في التأمينات الاجتماعية. كما ألغت دعم الخبز الذي اعتمد عليه الملايين، وتخطط لخفض أو حتى إلغاء الدعم على أسعار الكهرباء بالكامل لأن 'الأسعار منخفضة للغاية، وأقل بكثير من تكلفتها'.
ومدينة بالحكومة التركية، خفضت حكومة هيئة تحرير الشام المؤقتة رسوم الاستيراد على مجموعة واسعة من المنتجات التركية، مما أدى إلى ارتفاع كبير في الواردات، وتناقش تجديد اتفاقية التجارة الحرة لعام 2005 بين البلدين التي عُلقت في عام 2011. ومن المتوقع أن تؤثر هذه التطورات سلبًا على المنتجين السوريين وتزيد من إفقار العمال السوريين وسكان الريف.
الولايات المتحدة تدفع للسيطرة على سوريا
تدعم إدارة ترامب إقامة دولة سورية موحدة بحكومة مركزية بقيادة الشرع تسيطر على كامل البلاد، لإنهاء حالة التشرذم الحالية في سوريا.
في حين تسيطر الحكومة على المراكز السكانية الرئيسية على المحور الشمالي الجنوبي من حلب إلى دمشق، تسيطر قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ووحدات حماية الشعب الكردية (YPG) على قرابة ثلث البلاد، المنطقة الشرقية حيث تقع معظم موارد النفط والغاز في سوريا، وأفضل أراضيها الزراعية، وسد يُغذي معظم الكهرباء. ويدعمهم ما يُقدر بنحو 2000 جندي أمريكي، متواجدون هناك ظاهرياً لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) الذي ينشط في سوريا والعراق، ولمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. و أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالفعل عن نيته سحب القوات.
الدروز، طائفة دينية تعيش في لبنان وشمال إسرائيل وجنوب سوريا وشمال الأردن، يسيطرون على المنطقة الواقعة جنوب دمشق، بينما تسيطر ميليشيات إسلامية مدعومة من تركيا تحت لواء الجيش الوطني السوري على مناطق على طول الحدود الشمالية لسوريا مع تركيا بهدف منع أي تواصل بين سوريا وأكراد تركيا.
أصر توم باراك، المبعوث الأمريكي إلى سوريا، على أن سوريا يجب أن تكون 'دولة واحدة'، دون حكم ذاتي لـ 700 ألف درزي، أو 2-3 ملايين كردي، أو 2.7 مليون علوي، لكنه حذر من اتخاذ إجراء أحادي الجانب قد يهدد الاستقرار الإقليمي. وقال لصحيفة نيويورك تايمز هذا الشهر إن الولايات المتحدة لم تضع معايير للديمقراطية والشمولية لعلاقاتها مع دمشق، وأدان محاولات الولايات المتحدة السابقة 'لبناء أمة' والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الشرق الأوسط. دفع هذا بعض الأكراد داخل سوريا وخارجها إلى اتهام واشنطن بخيانة حلفائها القدامى.
وقّع الأكراد والميليشيات الدرزية اتفاقية مع الشرع لنزع سلاحهم والانضمام إلى الجيش السوري، على الرغم من إصرارهم على قدرٍ من الحكم الذاتي المحلي. ويُعتبر هذا الاتفاق، بالنسبة للأكراد، مفتاحاً لإنهاء حرب تركيا ضد وحدات حماية الشعب، التي تعتبرها شريكاً لحزب العمال الكردستاني (PKK) الذي يُعتبر جماعةً إرهابيةً وتهديداً للأمن القومي التركي. خاضت أنقرة حرباً طويلةً ودمويةً ضد حزب العمال الكردستاني، أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 40 ألف شخص، وتدمير ما لا يقل عن 2000 قرية، ونزوح قرابة مليوني كردي من ديارهم إلى المدن.
إن إنهاء الصراع الطويل بين أنقرة والأكراد سيمكّن الولايات المتحدة من تسليم مسؤولية مواصلة الحرب ضد داعش إلى تركيا، حليفتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، صاحبة ثاني أكبر جيش، وسحب قواتها من سوريا.
قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إن هذا سيعود بفوائد إيجابية على بلاده، وأضاف: ' عاد السوريون من بلدنا طوعاً (بعد سقوط نظام الأسد). وسنواصل دعم عودتهم. ومع عودة المزيد منهم، ستستعيد سوريا شعوراً بالعودة الطبيعية، وستكون حدودنا الجنوبية أكثر استقراراً'.
موارد الطاقة والبنية التحتية في سوريا
تقع معظم موارد سوريا من النفط والغاز الطبيعي، التي كانت قبل الحرب مصدراً مهماً لإيرادات الحكومة وجعلت البلاد مكتفية ذاتياً ومُصدّرة للطاقة، في شرق سوريا، الخاضع إلى حد كبير للسيطرة الكردية. بعد اندلاع الحرب عام 2011، انخفض إنتاج النفط إلى حوالي 15% من إنتاجه السابق، مما أجبر الحكومة على الحصول على النفط عبر خط ائتمان من إيران، التي تدين لها الآن بما تراوح بين 30 و50 مليار دولار، و رفض النظام الجديد سدادها.
في حين أن سوريا لم تبدأ بعد بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر، فمن المرجح جداً أنها، مثل مصر وإسرائيل وغزة ولبنان، تمتلك موارد نفط وغاز في شرق البحر الأبيض المتوسط، التي ستصبح محور اهتمام شركات استكشاف الطاقة الدولية. ومع ذلك، في حين أن أنقرة ترغب في تحديد حدود مياهها البحرية تجاه سوريا، فمن المرجح أن يتسبب ذلك في خلاف مع قبرص واليونان اللتين ستلجئان إلى واشنطن وبروكسل طلباً للدعم.
الشرع عازم على إعادة فرض السيطرة السورية على المنطقة الكردية لتأمين عائداتها النفطية وإمدادات الكهرباء في البلاد، إذ إنه حتى في دمشق، أكثر مناطق البلاد تزويداً بالكهرباء، لا تتوفر إلا ساعة واحدة كل ست ساعات، الأمر الذي جعل الحياة اليومية لا تُطاق بالنسبة للغالبية العظمى ممن يفتقرون إلى الطاقة الشمسية أو المولدات الكهربائية.
تدعم أنقرة الشرع لأنها تريد القضاء على أي كيان كردي قد يشجع على توجهات انفصالية مماثلة في تركيا نفسها. فهي تُزود بالفعل منطقة إدلب شمال غرب سوريا بالكهرباء، وبدأت في إصلاح محطات توليد الطاقة في سوريا، وستنشر، بالتعاون مع قطر، سفناً عائمة لتزويد سوريا بالطاقة الكهربائية. كما يمكن لإسرائيل أن تُزود سوريا بالكهرباء إذا وافقت دمشق على تطبيع العلاقات مع تل أبيب، مما سيُمكّن سوريا من أن تصبح دولة عبور لصادرات الغاز من إسرائيل ومصر إلى تركيا وأوروبا.
فوفقاً لتقارير البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإن إعادة إعمار البنية التحتية والاقتصاد المتضرر في سوريا، بعد 13 عاماً من الحرب التي تركت 90% من سكان سوريا، البالغ عددهم 23 مليون نسمة، تحت خط الفقر، و16.7 مليون شخص يعتمدون على المساعدات الإنسانية، قد تكلف ما بين 300 و400 مليار دولار. وهذا يفوق بكثير الناتج المحلي الإجمالي لسوريا قبل الحرب، الذي كان قرابة 60 مليار دولار، أو 4000 دولار للفرد، انخفض الآن إلى 17.5 مليار دولار فقط، أو 760 دولاراً للفرد، في حين أن الحكومة والبنك المركزي في حالة إفلاس شبه كامل.
كان احتمال هذه الفرص التجارية هو ما دفع تركيا ودول الخليج إلى الضغط على الولايات المتحدة لرفع العقوبات عن سوريا. فخلال زيارته للرياض في أيار/مايو، التي ركزت على الحد من نفوذ بكين في المنطقة والاتفاق على صفقات تجارية مع الدول العربية ذات الروابط القوية بمصالحه التجارية ومصالح عائلته، عقد ترامب اجتماعاً لمدة 30 دقيقة مع الشرع. وأشاد به ووصفه بأنه 'شاب جذاب. رجل قوي، كما تعلمون. له ماضٍ قوي ، ماضٍ قوي للغاية. مقاتل'.
صفق له جمهوره بحرارة عندما أعلن أنه سيرفع العقوبات الأمريكية عن الحكومة السورية الجديدة لمنح البلاد 'فرصة للسلام.
سيمكّن إنهاء العقوبات الأمريكية تركيا والخليج محاولة دمج سوريا، إلى جانب لبنان حيث أدى القصف الجوي الإسرائيلي المكثف لمعاقل حزب الله وأسلحته وأفراده إلى تآكل قوة الجماعة، في مجالات نفوذهما الاقتصادي والسياسي. ولكن حتى الآن، فإن الجمود السياسي في لبنان، على الرغم من إضعاف إسرائيل لحزب الله بشكل خطير، قد أعاق أي استثمار من جانب دول الخليج أو اتفاق سياسي بشأن التدابير الاقتصادية التي من شأنها ضمان الحصول على قرض من صندوق النقد الدولي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة.
عمت الاحتفالات قبل بضعة أسابيع عندما أعلنت إدارة ترامب أنها اتخذت الخطوات الإدارية والقانونية لرفع العقوبات الأمريكية ورفعةهيئة تحرير الشام من القائمة الأمريكية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. ويهدف هذا إلى إعادة دمج سوريا في النظام المالي العالمي، مما يتيح لدول الخليج وتركيا القيام باستثمارات مالية كبيرة.
ووفقاً للتقارير، ستبدأ أنقرة إعادة بناء الجيش السوري، ويخطط مستثمرون سعوديون لاستثمار 6.4 مليار دولار في البنية التحتية السورية والعقارات والاتصالات وغيرها من القطاعات الرئيسية. ووقعت شركة موانئ دبي العالمية، ومقرها الإمارات العربية المتحدة، التي تدير عشرات الموانئ والمحطات البحرية والبرية عالمياً، ولا سيما في آسيا وأفريقيا وأوروبا، صفقة بقيمة 800 مليون دولار لتطوير ميناء طرطوس، بشرط طرد الشرع لحزب الله. جاء ذلك في أعقاب توقيع عقد مدته 30 عاماً في أيار/مايو مع شركة الشحن الفرنسية CMA CGM لتطوير وتشغيل ميناء اللاذقية، وصفقة طاقة بقيمة 7 مليارات دولار مع اتحاد شركات قطرية وتركية وأمريكية كجزء من الجهود المبذولة لإنعاش قطاع الطاقة المتعثر.
الصين في سوريا
كان جوهر قرار ترامب برفع العقوبات هو تصميمه على منع الصين من استغلال عزلة سوريا الاقتصادية عن النظام المالي الدولي، وجني الأرباح التجارية والجيوسياسية الناتجة عنها. أصبحت بكين أهم شريك تجاري واستثماري للشرق الأوسط، وتتخصص في إعادة إعمار البنية التحتية اللازمة في سوريا.
في حين دعمت الصين سوريا خلال الحرب التي استمرت 13 عاماً، كان ذلك دعماً سياسياً ودبلوماسياً، وليس اقتصادياً أو عسكرياً. استخدمت حق النقض (الفيتو) ضد قرابة ثماني قرارات في مجلس الأمن الدولي، دفاعاً عن سوريا ضد التدخلات الأجنبية، كجزء من موقفها الأوسع المؤيد لـ'عدم التدخل' و'احترام السيادة الوطنية'. و كلّفها امتناعها عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي بشأن ليبيا عام 2011 ثمنا باهظاً، الأمر الذي أجبر بكين على إجلاء 30 ألف مدني عملوا في مواقع البناء هناك.
ففي حين حافظت بكين على علاقات وثيقة مع الأسد خلال الحرب، إلا أنها ما قامت إلا بتبادل تجاري أو استثماري محدود. وبلغ إجمالي استثماراتها وعقود البناء في سوريا، والتي بدأت جميعها قبل الحرب، ما زاد قليلاً عن 4.6 مليار دولار. وعلى الرغم من انضمام سوريا إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية في عام 2022 وزيارة الأسد الرسمية إلى بكين في عام 2023، فقد انخفض حجم التجارة بين البلدين من 1.27 مليار دولار في عام 2018 إلى 356 مليون دولار في عام 2023.
مع ذلك، شكّلت الإطاحة بالأسد انتكاسة قاسية للصين التي تخشى أن يؤثر ذلك على دول مثل مصر والسعودية والإمارات، حيث لديها مليارات الدولارات من الاستثمارات والتجارة والبنية التحتية على المحك. كما تُعدّ المنطقة مهمة كطريق نقل لوارداتها من الطاقة وصادراتها الصناعية عبر قناة السويس ومضيق باب المندب ومضيق هرمز، التي تعتمد عليها.
تجنبت حكومة هيئة تحرير الشام الجديدة الصين إلى حد كبير، حيث أرسلت مسؤولين كباراً في وقت سابق من هذا العام إلى دمشق لمناقشة الاستثمارات المحتملة في البنية التحتية. ومؤخراً، حضر وفد كبير من الشركات الصينية، وهو الثاني بعد الوفد التركي، مؤتمراً لإعادة الإعمار في سوريا. وفي أيار/مايو، وقّعت سوريا مذكرة تفاهم مع شركة صينية للاستثمار في مدن بمحافظة حمص وريف دمشق.
مساعي إسرائيل لتقسيم سوريا
تتمثل إحدى القضايا الرئيسية في استقرار حكم هيئة تحرير الشام في سوريا في قدرتها على السيطرة على المنطقة الشرقية المنتجة للنفط والغاز، التي يسيطر عليها حالياً الانفصاليون الأكراد، ووحدات حماية الشعب، والمنطقة الجنوبية ذات الأغلبية الدرزية. و واجهت إسرائيل، التي ضغطت على إدارة ترامب لتقسيم سوريا إلى كانتونات، لإبقائها ضعيفة.
ردّت إسرائيل على إطاحة الشرع بنظام الأسد بتصعيدٍ هائلٍ لقصفها للبلاد. نفّذت طائراتها الحربية مئات الطلعات الجوية، مُدمّرةً الدفاعات الجوية السورية، و70% من المعدات العسكرية الحيوية، وأرشيفات المخابرات السورية. ووصمّت النظام الجديد بحكومة 'إرهابيين'. وهدف هذا القصف إلى ضمان استخدام إسرائيل للمجال الجوي السوري لمهاجمة إيران، وتقويض جهود الشرع لاستعادة السيطرة على الأراضي التي تسيطر عليها جماعات أخرى، بما في ذلك وحدات حماية الشعب الكردية.
على الأرض، اقتحم الجيش الإسرائيلي مساحات شاسعة من الأراضي السورية على الحدود الشمالية لإسرائيل ووضع يده عليها. احتلت إسرائيل مرتفعات الجولان السورية منذ حرب عام 1967، وضمتها عام 1981 في تحدٍ للقانون الدولي. بعد انهيار نظام الأسد، استولت على منطقة عازلة خاضعة لمراقبة الأمم المتحدة، و على أجزاء من محافظتي القنيطرة ودرعا، وعلى جبل الشيخ ذي الأهمية الاستراتيجية على الحدود اللبنانية، وأنشأت عدداً من القواعد العسكرية هناك، بحجة حماية الأقلية الدرزية في سوريا. لقد استنسخت في الواقع سيطرة تركيا على مساحات شاسعة من شمال سوريا.
ما أثار هذا أي معارضة من القوى الإمبريالية والإقليمية، وما ولد سوى انتقادات خافتة للغاية من دمشق.
ومع ذلك، ففي كانون الثاني/ يناير، أثارت إسرائيل ضجة بعد نشر وزارة الخارجية الإسرائيلية خريطة مثيرة للجدل أظهرت مملكة إسرائيل التوراتية التي ضمت أجزاء كبيرة من الأردن ولبنان وسوريا الحديثة. وأعلن نتنياهو أن 'الجولان سيكون جزءا من دولة إسرائيل إلى الأبد'، وقال إنه لن يسمح للجيش السوري بالعمل في أي مكان جنوب دمشق، وبالتالي منعه من إعادة السيطرة على المنطقة الجنوبية، بما في ذلك حدود البلاد مع الأردن.
أجّج وزير الخارجية جدعون ساعر، في حديثه خلال اجتماع للاتحاد الأوروبي وإسرائيل، النزعة الانفصالية. ودعا إلى تقسيم سوريا إلى دول مستقلة منفصلة وفقاً لتكوينها العرقي و/أو الديني. جاء ذلك في أعقاب تصريح سابق صرّح فيه بأن 'الشعب الكردي أمة كبيرة، من أكبر الشعوب عديمة الجنسية. إنهم حلفاؤنا الطبيعيون'، مضيفاً: 'إنهم أقلية قومية في أربع دول، يتمتعون بالحكم الذاتي في اثنتين منها، بحكم الواقع في سوريا، وبحكم القانون، في دستور العراق. إنهم يعانون من القمع والعدوان من إيران وتركيا. يجب أن نتواصل معهم ونعزز علاقاتنا. لهذا الأمر أبعاد دبلوماسية وأمنية'.
في أوائل آذار/ مارس، وصف نتنياهو الحكومة السورية الجديدة بأنها 'متطرفة'، وقال: 'إذا أساء النظام إلى الدروز، فسوف نؤذيه'.
في الآونة الأخيرة، ظهرت خطط إسرائيل لما يُسمى 'ممر داوود'، الأمر الذي أثار مخاوف من سعي حكومة نتنياهو إلى إقامة دولة إسرائيل الكبرى. يمر هذا الممر جنوب سوريا، ويربط محافظة درعا بقاعدة التنف الأمريكية، قرب الحدود مع الأردن والعراق، وبنهر الفرات في الأراضي الخاضعة لسيطرة الأكراد شرقاً. يمكن أن يوفر هذا الممر طريق نقل إلى شمال العراق، وإمكانية نقل النفط والغاز إلى ميناء حيفا على البحر الأبيض المتوسط، الأمر الذي ينافس المشاريع التي طرحتها تركيا ودول الخليج.
أدت تحركات إسرائيل في سوريا إلى زيادة التوترات مع تركيا، حليفة واشنطن الأخرى في المنطقة، مما دفع أنقرة إلى السعي إلى اتفاق جديد مع حزب العمال الكردستاني (PKK)، الأمر الذي عزز تحالفاً 'تركياً-كردياً-عربياً' رجعياً، بدعم من زعيم الحزب المسجون عبد الله أوجلان، الذي دعا إلى تفكيك الحزب، لمواجهة طموحات إسرائيل التوسعية في المنطقة.
في وقت سابق من هذا الشهر، قُتل أكثر من 1400 شخص، معظمهم من الدروز، في اشتباكات مسلحة بين جماعات درزية وقبائل بدوية في محافظة السويداء الجنوبية، اندلعت بسبب نزاع بدا تافهاً على حمولة شاحنة خضراوات عند نقطة تفتيش. نزح أكثر من 170 ألف شخص من منازلهم ودُمرت الخدمات الأساسية. ظنّ الشرع أنه يحظى بدعم واشنطن في تأكيد سيطرة النظام، فأرسل الجيش لدعم البدو ضد الدروز.
فتدخلت القوات الإسرائيلية ، بحجة منع 'القوات المعادية' من الاقتراب من حدودها، ثم تحولت لاحقاً إلى 'دعم الدروز' ، في محاولة لإخراج القوات السورية من المنطقة التي طالب نتنياهو بإبقائها منزوعة السلاح. نفذت إسرائيل أكثر من 160 غارة جوية في جنوب سوريا وقصفت مقر هيئة الأركان العامة السورية وأهدافاً قريبة من القصر الرئاسي في وسط دمشق. دفعت الاشتباكات الأردن إلى نشر قوات على حدوده مع سوريا لمنع امتداد الاشتباكات إلى أراضيه.
أدى الصراع إلى أزمة إنسانية كبيرة في المحافظة.
وورد أن المسؤولين الأمريكيين فوجئوا بتدخل إسرائيل، إذ أعلن وزير الخارجية ماركو روبيو أن الوضع 'معقد' وأنه 'يبدو وكأنه سوء تفاهم'. وبعد 'محادثات مع جميع الأطراف'، دعا سوريا إلى سحب قواتها 'لإتاحة المجال لخفض التصعيد'، محذراً في الوقت نفسه من أن الصراع 'يشكل تهديداً مباشراً للجهود المبذولة لبناء سوريا سلمية ومستقرة'. وفي وقت لاحق، قالت وزارة الخارجية الأمريكية: 'لم تدعم الولايات المتحدة الغارات الجوية الإسرائيلية الأخيرة'، محذرة إسرائيل عملياً من التدخل في السياسة الطائفية في سوريا التي قد تُعرّض المصالح الأمريكية للخطر.
سحب الشرع قواته، تاركًا الدروز يسيطرون على المنطقة، وكرّر وعوده بحماية الأقليات الدينية في سوريا التي تخشى الإسلاميين السنة الذين يسيطرون الآن على البلاد، لا سيما بعد مذبحة اللاذقية التي راح ضحيتها 1700 علوي في آذار، والهجوم على كنيسة مار إلياس في دمشق في حزيران، والذي يُرجّح أن يكون من قِبَل ميليشيات هيئة تحرير الشام، والذي قُتل فيه 25 شخصاً.
تركيا، التي عارضت الدعم الإسرائيلي للمناطق ذات الحكم الذاتي في سوريا، دعا نائب وزير الخارجية التركي، نوح يلماز، إلى وقف الهجمات العسكرية الإسرائيلية. وصرح نائب وزير الخارجية التركي، نوح يلماز، لمجلس الأمن الدولي خلال اجتماع بشأن سوريا، قائلاً: 'لقد بلغ استخفاف إسرائيل بالقانون والنظام وسيادة الدولة مستويات جديدة بهجماتها الأخيرة على المجمع الرئاسي ووزارة الدفاع. وقد تحسن الوضع جزئياً نتيجة جهودنا المشتركة مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى'.
وتخشى أنقرة أن يُشجع هذا الأمر الأكراد في شمال شرق سوريا على التمسك بمطالبهم بالحكم الذاتي، فتدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي السورية والعودة إلى خطوط التماس المنصوص عليها في اتفاقية فصل القوات لعام 1974. وتريد أنقرة من إدارة ترامب تبني هذا الموقف، وتريد من الشرع أن يشترط هذا أي اتفاق مع إسرائيل.
وكما هو الحال مع كل هذه الصراعات في الشرق الأوسط، أكدت مجموعة المساواة الاشتراكية، الفرع التركي للجنة الدولية للأممية الرابعة، أن 'الطريق الوحيد للمضي قدماً في سوريا، التي دمرتها حرب تغيير النظام المدعومة من الإمبريالية و أصبحت الآن مسرحاً لصراع خطير على السلطة بين مختلف القوى الإقليمية والمحلية، هو من خلال منظور اشتراكي دولي يوحد جميع العمال بما يتجاوز الانقسامات العرقية أو الدينية أو الطائفية في النضال من أجل سلطة العمال ضد الإمبريالية'.