أعلنت حكومة رئيس الوزراء نواف سلام التزامها بنزع سلاح حزب الله، في خطوة تُنذر بعواقب وخيمة على لبنان. هذا البلد الصغير واقعٌ في مرمى نيران جهود الإمبريالية الأمريكية للقضاء على ما تبقى من نفوذ إيران في الشرق الأوسط.
حزب الله جماعة إسلامية متحالفة مع طهران، وتحظى بدعم حركة أمل الشيعية اللبنانية والجماهير الشيعية الفقيرة.
تأسس حزب الله في العقد التاسع من القرن المنصرم القرن الماضي، مكرساً جهده 'للكفاح المسلح' ضد إسرائيل في خضم احتلالها للبنان خلال الحرب الأهلية 1975-1990 - وهي حرب بالوكالة للقوى الإقليمية والإمبريالية المتنافسة، والقمع الهمجي للفلسطينيين. بدعم من سوريا وإيران، استمدت الحركة القومية الدينية البرجوازية دعمها داخل لبنان من الجماهير الشيعية الفقيرة التي قدمت لها خدمات الرعاية الاجتماعية الحيوية. دعا الحزب إلى التشاركية، والأبوية، والتعتيم الديني، كثقل موازن للصراع الطبقي. شكل حزب الله مع حلفائه الشيعة والفلسطينيين، أكبر كتلة في النظام السياسي اللبناني الطائفي والمجزأ.
ويمثل قرار نزع سلاح حزب الله رفضاً لسياسة استمرت عقوداً اعترف بها لبنان على أنها 'المقاومة' شبه الرسمية للاحتلال الإسرائيلي للبنان ولقمع الفلسطينيين، التي رمز إليها شعاره 'الشعب والجيش والمقاومة'. ويأتي هذا في أعقاب الحرب العقابية التي شنتها إسرائيل على حزب الله، والتي صممت لإنهاء سيطرته العسكرية والسياسية على البلاد، وإقامة سيطرة إسرائيلية فعلية على مساحات شاسعة من الأراضي الحدودية، بدعم من الإمبريالية الأمريكية وحلفائها في الخليج وفرنسا.
طالب مجلس الوزراء، يوم الخميس، الجيش بإعداد خطة لنزع سلاح حزب الله بحلول نهاية الشهر ، على أن تُنفَّذ بحلول نهاية العام. قاطع وزراء حركة أمل وحزب الله الخمسة الاجتماع.
وندد حزب الله بالخطط، مُصرِّحاً بأن نزع السلاح لا يمكن مناقشته إلا في سياق 'استراتيجية دفاع وطني' أوسع. وتساءل زعيمه نعيم قاسم: 'أين الدولة التي ستدفع الكارثة عن لبنان، وأين الجيش الذي سيحمي حدوده؟'.
وجادل حزب الله بأن هذا يُعدّ استسلاماً للإملاءات الإسرائيلية والأمريكية، حتى في ظل استمرار جيش الدفاع الإسرائيلي في انتهاك اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي، بغارات جوية شبه يومية واحتلاله خمسة مواقع في جنوب لبنان.
أتي قرار مجلس الوزراء في أعقاب زيارات قام بها إلى بيروت كل من السفير الأمريكي في تركيا، والمبعوث الخاص إلى سوريا ولبنان، توم باراك، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وقائد القيادة المركزية الأمريكية، الجنرال مايكل كوريلا، التي أوضحت أنه بدون التزام الحكومة وحزب الله بنزع سلاحهما، لن تُقدم أي مساعدات أو قروض إلى الدولة المفلسة. يُكذب هذا أي فكرة مفادها أن الدولة التي بلغ عدد سكانها ستة ملايين نسمة تتمتع بأي استقلال سياسي أو سيادة.
وصل الرئيس جوزيف عون إلى الرئاسة من قِبل واشنطن وحلفائها المسيحيين والمسلمين السنة (تحالف 14 آذار السابق) في كانون الثاني /يناير الماضي، بعد شغور استمر لأكثر من عامين بسبب الأزمة السياسية والاقتصادية المستمرة في البلاد.
وقف إطلاق النار الذي فرضته واشنطن عقب الحرب الأمريكية الإسرائيلية على لبنان
سعى وقف إطلاق النار الذي فرضته واشنطن في تشرين الثاني / نوفمبر الماضي إلى الاستفادة من هزيمة إسرائيل المدمرة لحزب الله. بعد شن حربها الإبادة الجماعية على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، استخدمت إسرائيل دعم حزب الله للفلسطينيين لمهاجمة قواته وقواعده وأسلحته في لبنان وسوريا، حيث لعبت دورا رئيسيا، إلى جانب إيران وروسيا، في دعم نظام الأسد الذي تداعى.
سعت إسرائيل، بوصفها مقاولاً فرعياً للإمبريالية الأمريكية في المنطقة الغنية بالموارد، إلى القضاء على حزب الله كقوة عسكرية وسياسية كجزء من استعدادات واشنطن الأوسع للحرب ضد إيران، وهي عنصر حاسم في صراعها ضد روسيا والصين. استهدفت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الوقت نفسه،فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإسلامي الإيراني والميليشيات المدعومة من إيران في العراق وسوريا واليمن لتطويق إيران استعداداً لحرب شاملة ضد طهران.
دمرت إسرائيل أنظمة اتصالات حزب الله، وفجرت مئات أجهزة النداء واللاسلكي التي استخدمها عناصره، وأصابت الآلاف قبل أن تشن غزواً برياً مدمراً على لبنان استمر شهرين. اغتال جيش الدفاع الإسرائيلي كبار قادة حزب الله، بمن فيهم حسن نصر الله وخليفته هاشم صفي الدين، وضرب منشآت مالية وإدارية وإعلامية للجماعة، وقصف الكثير من أسلحتها ومخازن صواريخها في لبنان وسوريا.
أدى الغزو البري الذي شنه الجيش الإسرائيلي في تشرين الأول/أكتوبر على جنوب لبنان إلى تدمير أو إتلاف ما يقرب من 250 ألف منزل، و20 ألف مبنى عام، بما في ذلك 13 مستشفى، وإجبار أكثر من 1.2 مليون شخص، من بينهم 400 ألف طفل، على الفرار من منازلهم. كما أسفر عن مقتل قرابة 4000 شخص، معظمهم من المدنيين، وإصابة أكثر من 16 ألفاً. وواصلت إسرائيل غاراتها الجوية على لبنان في تحدٍ لوقف إطلاق النار. وقُدرت تكلفة إعادة الإعمار بنحو 13 مليار دولار، نصفها تقريباً أضرار مباشرة والباقي آثار اقتصادية أوسع نطاقاً.
جاء هذا الدمار في خضم الانهيار الاقتصادي والمالي الذي يشهده لبنان، و تجلى في التخلف عن سداد قروضه الدولية في آذار / مارس 2020، لناجم عن نهب ثروات البلاد من قبل حفنة من المليارديرات الذين أداروا البلاد منذ نهاية الحرب الأهلية عام 1990. و أدى انخفاض العملة وارتفاع التضخم وجائحة كوفيد-19، وارتفاع معدلات البطالة التي أعقبت ذلك إلى انزلاق 80 في المئة من السكان إلى براثن الفقر. في آب/ أغسطس2020، أدى الانفجار المروع في مرفأ بيروت، الناجم عن تخزين مواد كيميائية خطرة لمدة ست سنوات دون اتخاذ إجراءات السلامة اللازمة، إلى مقتل أكثر من 200 شخص، وتدمير الأحياء الشرقية للمدينة، وإشعال غضب جماهيري.
دعت اتفاقية وقف إطلاق النار حزب الله إلى إزالة مواقعه المحصنة في جنوب لبنان، وسحب قواته إلى شمال نهر الليطاني، على بُعد 20 كيلومتراً شمال الحدود مع إسرائيل. كرر هذا إلى حد كبير قرار مجلس الأمن رقم 1701، الذي أنهى حرب إسرائيل الفاشلة إلى حد كبير عام 2006 ضد حزب الله. و كلف الاتفاق الجيش اللبناني بالبدء في نزع سلاح 'الجهات الفاعلة غير الحكومية'، حزب الله والفصائل الفلسطينية داخل مخيمات اللاجئين الـ 12 في لبنان ، بحلول أواخر آب/أغسطس، وإكمال العملية في غضون 90 يوماً، بدعم من الولايات المتحدة وفرنسا وعدة دول عربية.
وافقت الولايات المتحدة على توفير أموال إضافية للقوات المسلحة اللبنانية إذ بلغ إجمالي إنفاق الجيش اللبناني العام الماضي 241 مليون دولار، وفقاً لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام، كان قرابة نصف المبلغ من الولايات المتحدة التي قدمت أكثر من 2.5 مليار دولار في السنوات العشرين الماضية، مما يجعلها أكبر مانح منفرد. ووفقاً لرويترز، أبلغت إدارة ترامب الكونجرس أنها ستحول 95 مليون دولار من الجيش المصري إلى الجيش اللبناني.
تضمنت الاتفاقية أيضاً رسالة أمريكية تمنح إسرائيل الحق في 'شنّ عمل عسكري' إذا 'بدا أن حزب الله يُحضّر لهجوم'. وكان بإمكان تل أبيب استئناف الأعمال العدائية متى رأت إسرائيل والولايات المتحدة ذلك مناسباً.
حرّر وقف إطلاق النار إسرائيل من الهجمات على حدودها الشمالية، في حين واصلت حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزة والأراضي السورية المحتلة، وواصلت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة هجماتها على أهداف مدعومة من إيران في اليمن والعراق وسوريا. ومع إضعاف حزب الله، تمكن حليف واشنطن الإسلامي، هيئة تحرير الشام، من الاستيلاء على دمشق وأعلن زعيمها أحمد الشرع رئيساً مؤقتاً.
داخل لبنان، مكنت هزيمة حزب الله واشنطن من الضغط على حلفائها السنة والمسيحيين لتأمين انتخاب رئيس، هو الجنرال جوزيف عون، منتهكاً القانون اللبناني الذي يحظر شخصية عسكرية عاملة، بعد أكثر من عامين بدون رئيس للدولة. وقد مكّن ذلك من تعيين رئيس وزراء، نواف سلام، الذي يمكن تكليفه بالحفاظ على المصالح الجيوستراتيجية لواشنطن وحلفائها الإقليميين وإنهاء نفوذ إيران طويل الأمد في البلاد من خلال حزب الله وحلفائه.
التزمت حكومة سلام نهج واشنطن
سلام سليل عائلة بيروتية مرموقة، شغل اثنان من أعضائها منصب رئيس الوزراء في فترة ما بعد الحرب. وهو محامٍ ودبلوماسي وقاضٍ في محكمة العدل الدولية التابعة للأمم المتحدة، ومؤهلاته السياسية الوحيدة هي ترؤس إصدار الحكم المؤقت غير الفعال للمحكمة، الذي لا يقل عنه عجزاً، الذي اتهم إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في غزة ، ومن المتوقع أن تُعقد جلسة استماع كاملة لها في أوائل عام 2028.
روج، منذ توليه منصبه، للنهج الأمريكي، رافضاً المقاومة المسلحة، اللبنانية والفلسطينية، ومطالباً بالسلام الذي يتبعه التطبيع مع إسرائيل. و سعى إلى تشديد السيطرة على الحدود مع سوريا، ي حين ما فعل شيئاً لوقف انتهاكات إسرائيل لوقف إطلاق النار المبرم في تشرين الثاني/ نوفمبر.
عقب زيارة رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس في أيار / مايو ، الذي دعا بيروت إلى نزع سلاح الفلسطينيين المقيمين في مخيمات اللاجئين في لبنان، ووافق على أن الفصائل الفلسطينية لن تستخدم الأراضي اللبنانية قاعدة لشن هجمات ضد إسرائيل، أنشأ سلام مجموعة لإعداد خطة لنزع سلاحهم. جاء ذلك في أعقاب سيطرة الجيش على ست قواعد مسلحة فلسطينية نهاية العام الماضي.
واشنطن تفرض القانون
لكن جهود سلام لكبح جماح حزب الله، وتقليص سيطرته على جنوب لبنان وميناء ومطار بيروت، ما كانت سريعة أو واسعة النطاق بما يكفي لتأمين المساعدات المالية الموعودة، مع إصرار الولايات المتحدة على التفكيك الكامل لترسانة حزب الله من الأسلحة الثقيلة.
ففي تموز/ يوليو، غرّد باراك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا ولبنان، وتاجر العقارات الملياردير من أصل لبناني، قائلاً: 'ما دام حزب الله يحتفظ بالسلاح، فلن تكفي الكلمات'.
وحذر باراك من أنه مع رحيل إيران عن المشهد، وهجوم إسرائيل، وفرض سوريا نفسها الآن 'بسرعة كبيرة، لدرجة أنه إذا لم يتحرك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام مرة أخرى'. وكانت إشارته إلى المنطقة التاريخية في سوريا التي ضمت لبنان و جزءاً كبيراً من فلسطين تهديدا ضمنياً لوجود لبنان ذاته.
وتطالب إدارة ترامب الجيش اللبناني بالبدء في نزع سلاح 'الجهات الفاعلة غير الحكومية' بحلول أواخر آب/أغسطس وإكمال العملية في غضون 90 يوماً. تُدرك واشنطن أن هذا قد يُعجّل بحرب أهلية، في ظلّ افتقار الجيش اللبناني للقوى البشرية والتسليح اللازم لقمع حزب الله. وترفض واشنطن إجبار إسرائيل على الانسحاب من الأراضي اللبنانية أو وقف هجماتها الجوية. وزعم باراك أن البيت الأبيض 'لا يستطيع إجبار إسرائيل على فعل أي شيء'، مضيفاً: 'أمريكا ليست هنا لإجبار إسرائيل على فعل أي شيء'.
رفض نعيم قاسم، زعيم حزب الله، تحديد موعد نهائي لنزع سلاح الجماعة، رافضاً مطالب واشنطن. وهدد بأنه إذا شنت إسرائيل حربًا شاملة أخرى على لبنان، 'فستنهال الصواريخ' عليها. وحتى مع قبول الحكومة لمقترح باراك، انتشر الجيش اللبناني في بؤر التوتر الرئيسية لقمع أي معارضة شعبية، بينما قصف الجيش الإسرائيلي مواقع لحزب الله في جنوب لبنان.
لم يُرضِ قبول الحكومة للخطة الأمريكية باراك، إذ لم تحظَ بموافقة مجلس الوزراء بأكمله بعد انسحاب الوزراء الخمسة قبل التصويت. وهدد بأنه بدون تصويت كامل، لن تكون هناك مساعدة مالية، وستكون لإسرائيل حرية التصرف في لبنان كما تشاء.