العربية

"الغفران؟ إسرائيل و منطق الدولة الألماني" دانيال مارفيكي إسرائيل في سياسة الدولة الألمانية: أسطورة التعويضات

بعد قرابة عامين من القصف المكثف والقتل الجماعي والحصار التجويعي لقطاع غزة، حوّلا إسرائيل إلى دولة منبوذة، مكروهة ومحتقرة في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، تقف الحكومة الألمانية بثبات خلف الحكومة الإسرائيلية، ولا تتفوق عليها في هذا إلا إدارة ترامب.

أمام الغضب المتزايد، تحوّل الموقف الرسمي لبرلين قليلاً. ففي منتصف حزيران/ يونيو، اعترف المستشار فريدريش ميرز بأن الدولة الصهيونية 'قامت بالأعمال القذرة نيابةً عنا جميعاً'، وهو الآن يحث على مزيد من الاهتمام الإنساني، ولن يوافق بعد الآن على استخدام الأسلحة في غزة. ومع ذلك، من الناحية العملية، لم يتغير شيء. وتستمر ألمانيا في دعم إسرائيل سياسيا وعسكريا، وتعارض كل العقوبات، وتلاحق معارضي الإبادة الجماعية بتهمة 'معاداة السامية'.

يُفترض أن يُبرَّر هذا بمسؤولية ألمانيا الخاصة عن الهولوكوست. ففي عام 2008، أعلنت المستشارة أنجيلا ميركل أن أمن إسرائيل 'مسألة منطق دولة' ألمانية، وهي نفس الصيغة الموجودة في اتفاق الائتلاف الحكومي الحالي. وقبل ثلاثة أشهر، في خطاب بمناسبة الذكرى الستين لإقامة العلاقات الدبلوماسية، احتفل الرئيس الاتحادي فرانك فالتر شتاينماير بـ 'معجزة المصالحة بعد التمزق الحضاري التالي للمحرقة'. في ذلك الوقت، كان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مطلوباً منذ فترة طويلة بموجب مذكرة توقيف دولية بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

إن تبرير جرائم الحرب التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي بالاستشهاد بتعويضات عن المحرقة أمر مقزز ومثير للاشمئزاز. لا تُلزم المسؤولية عن الإبادة الجماعية لليهود ألمانيا بدعم إبادة جماعية أخرى. استند هذا التبرير، تاريخياً، إلى أسطورة خالية من أي أساس واقعي.

ما كان للتعاون الوثيق بين ألمانيا وإسرائيل أي علاقة بـ'التعويضات' أو التكفير عن المحرقة أو أي شيء مماثل. بل كان اتفاقاً متبادلاً إذ زودت ألمانيا الدولة الصهيونية المحاصرة بالأسلحة والمساعدات الاقتصادية والمالية؛ وفي المقابل، غضت الحكومة الإسرائيلية الطرف عن استمرار وجود النخب النازية في دولة واقتصاد جمهورية ألمانيا الاتحادية، وساعدتها على اكتساب مكانة دولية مرموقة.

وُثّق هذا الارتباط بوضوح في كتاب 'الغفران؟: إسرائيل والسياسة الحكومية الألمانية' لدانيال مارفيكي. قام عالم السياسة، المولود في بريمن عام 1987، بتقييم ملفات من أرشيف وزارة الخارجية الألمانية في برلين، بعضها كان متاحاً لأول مرة، بالإضافة إلى ملفات من الأرشيف الإسرائيلي ومصادر أخرى عديدة.

نُشر الكتاب عام 2024، وكُتب قبل الحرب الأخيرة على غزة. استند الكتاب إلى أطروحة الدكتوراه التي قدمها مارفيكي عام 2018 في كلية الدراسات الشرقية والأفريقية (SOAS) بجامعة لندن، و نُشرت باللغة الإنجليزية بعنوان 'ألمانيا وإسرائيل: التزييف وبناء الدولة'. أما النسخة الألمانية، فقد نُقّح النص وأُضيفت إليه خاتمة مُحدّثة.

اتفاقية لوكسمبورغ لعام 1952: مساعدة اقتصادية للغفران لإعفاء السياسي.

بدأ التعاون الوثيق بين ألمانيا وإسرائيل قبل وقت طويل من إقامة العلاقات الدبلوماسية رسميًا عام 1965. ففي عام 1952، عندما كانت إسرائيل في الرابعة من عمرها والجمهورية الاتحادية في الثالثة من عمرها، تفاوضت الدولتان على ما سُمي 'اتفاقية التعويضات' في لوكسمبورغ بعد محادثات مطولة.

في العام السابق، أقرت حكومة كونراد أديناور (الحزب الديمقراطي المسيحي) ما يُسمى 'القانون 131'، الذي ضمن عودة العديد من النازيين السابقين إلى الخدمة المدنية ومنحهم إمكانية الحصول على معاشات تقاعدية عامة. وكما أوضح مارفيكي، كان القانون والاتفاقية مرتبطين ارتباطاً وثيقاً:

فمن منظور ألماني ما بعد الحرب، ما كانت سياسة التعويض تجاه إسرائيل وإعادة دمج النازيين القدامى في ألمانيا الحديثة العهد متناقضتين بالكامل، بل كان التعويض وإعادة الدمج، في الواقع، متكاملين. فالأولى مكنت الثانية.

جلبت هذه الاتفاقية، التي اتسمت بتنافس شديد، لإسرائيل سلعاً رأسمالية وإمدادات طاقة كانت بأمسّ الحاجة إليها، وسرعان ما زوّدتها بالأسلحة. و دُفع ثلثا المبلغ الضئيل نسبياً، والبالغ 3.45 مليار مارك ألماني، الذي التزمت ألمانيا بدفعه كتعويضات، على شكل سلع. أما الثلث الأخير، فقد استُخدم لدفع ثمن شحنات النفط الخام من شركات الطاقة البريطانية. إلا أن التعويضات الفردية لضحايا الهولوكوست ما أُدرجت في الاتفاقية.

بالنسبة لإسرائيل، التي كانت لا تزال معزولة دولياً بشدة في ذلك الوقت، كانت الاتفاقية 'حيوية'، وفقاً لمارويتسكي. فحتى عام 1965، تدفقت رؤوس الأموال من ألمانيا إلى إسرائيل بنحو ثلاثة أضعاف رأس المال القادم من الولايات المتحدة، التي لم تصبح الداعم الرئيسي للدولة الصهيونية إلا بعد حرب حزيران عام 1967.

وفرت ألمانيا الآلات اللازمة لصناعات النسيج والكيمياء والهندسة وغيرها، بالإضافة إلى شق الطرق والزراعة وغيرها الكثير. وكان أكبر قطاع منفرد هو بناء السفن، حيث بلغ عدد السفن 60 سفينة وحمولتها الإجمالية حوالي 450 ألف سفينة. وشكلت الشحنات الألمانية في البداية 12% من إجمالي الواردات الإسرائيلية. وهكذا ساعدت ألمانيا في 'تحويل دولة زراعية اعتمدت على الاستيراد، إلى دولة صناعية موجهة نحو التصدير' قادرة على استيعاب العدد المتزايد من المهاجرين.

بالنسبة لألمانيا، كانت الاتفاقية، وفقًا لمارويتسكي، 'استثماراً فعالاً من حيث التكلفة في إعادة تأهيلها على الصعيد الدولي'. ساعدت 'التعويضات' المزعومة الجمهورية الاتحادية على اكتساب مكانة دولية مرموقة، بينما استمر النازيون السابقون، وبعضهم مسؤول عن جرائم يُعاقب عليها بالإعدام، في شغل مناصب حكومية عليا، ومناصب قضائية، ورئاسات جامعات، ومجالس إدارة شركات. كان هانز غلوبكي، رئيس الأركان و'صاحب المكانة الرفيعة' في مستشارية كونراد أديناور، أحد المشاركين في وضع قوانين نورنبرغ العنصرية ومُعلقاً عليها.

استفادت ألمانيا أيضاً اقتصادياً، وكما سنرى، عسكرياً من الاتفاقية. واليوم، بعد الولايات المتحدة والصين، لا تزال ثالث أكبر شريك تجاري لإسرائيل.

بيّن مارفيكي بالتفصيل أن اتفاقية لوكسمبورغ ما ترافقت باعتراف بجرائم النازية، أو التصالح معها. بل ساهمت في منع مثل هذه المحاسبة. وظلت التحيزات المعادية للسامية منتشرة على نطاق واسع حتى بعد سنوات، ووصلت إلى أعلى دوائر الحكومة.

أثارت اتفاقية لوكسمبورغ جدلاً واسعاً، ليس فقط في إسرائيل، بل في ألمانيا أيضاً. وكان من بين أبرز معارضيها المستشار المالي لأديناور، هيرمان جوزيف أبس، ووزير المالية فريتز شيفر. عارضاها بحجة التكلفة. ففي عهد النازيين، ارتقى أبس إلى القيادة العليا لبنك دويتشه. وبصفته عضواً في مجلس الإدارة، كان مسؤولًا عن إجراءات ' ترقية المنتمين إلى العرق الآري ' وعضواً في مجلس الإشراف على شركة آي. جي. فاربن، التي أدارت مصانع في أوشفيتز وأنتجت غاز تزيكلون ب القاتل لغرف الغاز. ففي عام 1957، بعد اثني عشر عاماً من سقوط النظام النازي، تولى آبس منصب الرئيس التنفيذي لدويتشه بنك، وارتقى ليصبح الشخصية المهيمنة في الاقتصاد الألماني.

وجاء العامل الحاسم في الموافقة على اتفاقية لوكسمبورغ في نهاية المطاف من وزير الاقتصاد والمستشار الألماني لاحقاً لودفيغ إرهارد (من الحزب الديمقراطي المسيحي)، الذي سلّط الضوء على فوائدها الاقتصادية والسياسية في رسالة إلى أديناور:

في تقييم أكثر ديناميكية للتنمية (الاقتصادية)، لا سيما من منظور سياسي، قد يكون من الممكن... أن يخدم قبول الديون الأعلى المصالح الألمانية بشكل أفضل في التحليل النهائي، وتحديداً إذا عززنا الجدارة الائتمانية الألمانية، وربما في النهاية، التوفيق بين يهود العالم وماضي ألمانيا. ما كان التلميح المعادي للسامية إلى 'يهود العالم' عرضياً. فلطالما أدلى أديناور بتصريحات مماثلة.

فحتى بعد الهولوكوست، لا تزال القيادة السياسية الألمانية تؤمن بمؤامرة يهودية عالمية. حتى عندما أقامت ألمانيا وإسرائيل رسمياً علاقات دبلوماسية عام 1965، برر أول سفير ألماني في تل أبيب، رولف بولس، ذلك في رسالة داخلية مستشهداً بتأثير 'يهود العالم':

تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل واليهود يمارسون نفوذاً حاسماً في المراكز العالمية الحاسمة لتكوين الرأي العام، وسيكونون ذوي أهمية كبيرة لحسن نيتنا، لا سيما فيما يتعلق بالرأي العام العالمي بشأن القضية الألمانية، في أوقات السياسة الخارجية الصعبة التي تنتظرنا. 'سيكون لموقف يهود العالم تجاه المسألة الألمانية، الذي لا يمكن فصله عن نوعية العلاقات الألمانية الإسرائيلية، في اعتقادي، وزن أكبر بالنسبة لمستقبل هذا الهدف السياسي الأكثر أهمية لدينا من موقف الدول العربية. '

كانت 'المسألة الألمانية' محور السياسة الخارجية الألمانية في ذلك الوقت. طالبت حكومة أديناور باستعادة ألمانيا ضمن حدودها لعام 1937، بما في ذلك دولة ألمانيا الشرقية آنذاك (GDR) والأراضي الشاسعة التي أُجبرت ألمانيا على التنازل عنها لبولندا ولتشيكوسلوفاكيا وللاتحاد السوفيتي بعد هزيمتها في الحرب. ما تغير ذلك إلا في عام 1970، عندما اعترفت حكومة ويلي برانت رسمياً بالحدود الغربية لبولندا لأول مرة.

اتضح الطابع الحقيقي للعلاقات الألمانية الإسرائيلية بشكل خاص خلال محاكمة أيخمان. عندما اختطفت المخابرات الإسرائيلية أدولف أيخمان، الذي لعب دوراً محورياً في اضطهاد وترحيل وقتل ستة ملايين يهودي، من الأرجنتين وحوكم في إسرائيل عام 1961، دقّت أجراس الإنذار في بون. خشيت الحكومة الألمانية من أن يتحدث أيخمان ويُدين مسؤولين رفيعي المستوى ولا سيما رئيس أركان المستشارية غلوبكي.

أرسلت دائرة المخابرات الاتحادية الألمانية (BND)، عجّت بالنازيين القدامى، عدداً من 'المراقبين' إلى القدس للتأثير على سير المحاكمة ومراقبة التقارير المتعلقة بها. وحُجبت الأسلحة والمساعدات المالية الموعودة حتى إعدام أيخمان في صيف عام 1962. أما أيخمان نفسه، فقد التزم الصمت. ما كان لدى النازي المتعصب كاره اليهود أي اهتمام بالتنديد برفاقه القدامى. أدرك أنه لا يستطيع الفرار من عقوبة الإعدام، فواصل تمثيل مهزلة 'تفاهة الشر' متلقي الأوامر غير السياسي الذي لا يترك للعاطفة مكان.

التعاون العسكري

كان التعاون العسكري بين ألمانيا وإسرائيل أكثر أهمية من التعاون الاقتصادي. بدأ حتى قبل اتفاقية لوكسمبورغ عام 1952. فمنذ عام 1948، كان جيش الهاغاناه السري على اتصال بممثلي الجيش الألماني، وفي عام 1951، قامت وزارة الدفاع الإسرائيلية بجولة تسوق في ألمانيا.

و قبل حرب حزيران عام ١٩٦٧، لعبت ألمانيا دوراً أهم من الولايات المتحدة في تقديم الدعم العسكري لإسرائيل. كتب مارفيكي: 'أصبحت إسرائيل قوة إقليمية بمساعدة ألمانيا، وما تولَّت الولايات المتحدة دور الراعي للدولة اليهودية إلا بعد أن أصبحت قوة إقليمية'.

كان وزير الدفاع فرانز جوزيف شتراوس القوة الدافعة وراء هذا التعاون. كان شتراوس، الرئيس المخضرم لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي (CSU)، الحزب الشقيق البافاري لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، منحازاً إلى الجناح اليميني في السياسة الألمانية، رافضاً رفضاً قاطعاً أي محاسبة للماضي النازي. امتنع عن التصويت البرلماني على اتفاقية لوكسمبورغ. ولكن عندما أصبح وزيراً للدفاع عام 1956، غيّر رأيه قائلاً: 'أصبحت إسرائيل، بالنسبة له، حصناً للغرب في الشرق الأوسط، وضامناً عسكرياً ضد النفوذ السوفيتي والقومية العربية'.

أدى التعاون العسكري إلى توترات مع وزارة الخارجية، التي خشيت أن تُقيم الدول العربية علاقات دبلوماسية مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية إذا ما انكشفت عمليات تسليم الأسلحة. ووفقاً لمبدأ هالشتاين الساري آنذاك، كان على جمهورية ألمانيا الاتحادية قطع العلاقات مع تلك الدول فوراً.

ما كان لذلك الأمر عواقب وخيمة على 'مكانة وسمعة جمهورية ألمانيا الاتحادية في الشرق الأوسط' فحسب، كما كتب وزير الخارجية هاينريش فون برينتانو إلى شتراوس عام 1958، بل كان سيُعرّض أيضاً إمدادات الطاقة الألمانية للخطر، التي اعتمدت بشكل متزايد على نفط الشرق الأوسط. لذلك، جرى التعاون العسكري في معظمه بسرية تامة، ولكنه كان أكثر كثافةً من أي وقت مضى.

في عام 1957، زار شمعون بيريز، نائب وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، شتراوس سراً في منزله الخاص في بافاريا. وأفاد بيريز لاحقاً: 'بعد بضعة أشهر فقط من اجتماعنا، تلقى الجيش الإسرائيلي معدات قيّمة للغاية. تلقينا ذخيرة ومعدات تدريب ومروحيات وقطع غيار وغيرها الكثير. كانت الجودة ممتازة والكمية كبيرة'.

كانت تلك البداية فقط. ففي آب/أغسطس 1962، بعد شهرين من إعدام أيخمان، وافقت الحكومة الألمانية على شحنة أسلحة ضخمة. شملت 114 مدفعاً مضاداً للطائرات، و24 مروحية من طراز سيكورسكي، و12 طائرة نقل من طراز نوراتلاس، وستة زوارق دورية سريعة من طراز جاكوار، وأربع طائرات دورنييه-28.

ما تعلق التعاون العسكري بالتعويضات، بل بالمصالح الإمبريالية الألمانية. خدمت إسرائيل جمهورية ألمانيا الاتحادية كنقطة انطلاق في الشرق الأوسط. وجاء في ملف الإحاطة المقدم لأول سفير ألماني في تل أبيب، رولف بولس:

اتصف الشرق الأوسط بأهمية استراتيجية كبيرة كجسرإلى أفريقيا والمحيط الهندي، وكخط اتصال لأوروبا بمراكز التوتر في شرق آسيا، ومصدر مهم للنفط، ويُعد الحفاظ على الاستقرار في هذه المنطقة شاغلاً بالغ الأهمية للغرب.

تعلق الأمر بصد نفوذ الاتحاد السوفيتي. كان بولس مدركاً لذلك، فكتب:

لا يمكن إنكار اهتمامنا بتعزيز الوضع الاقتصادي والسياسي لإسرائيل كعامل من عوامل العالم الحر في الشرق الأوسط.

ويستمر التعاون الأمني، السري إلى حد كبير، مع إسرائيل حتى يومنا هذا. وهو ذو أهمية كبيرة ليس فقط لإسرائيل، ولكن أيضًا للجيش الألماني (البوندسفير) وصناعة الأسلحة الألمانية. وكتب مارفيكي أنه 'يشمل البحث والتطوير والتدريب والمناورات العسكرية المشتركة'. وهو 'متشابك في المجالات العسكرية وسياسة التسليح والاستخبارات كما هو الحال بين دول حلف شمال الأطلسي'.

لا تكتفي ألمانيا بتوريد الأسلحة لإسرائيل، بل تشتريها أيضاً من مصانعها الإسرائيلية. على سبيل المثال، استُخدمت بندقية عوزي الإسرائيلية كمدفع رشاش قياسي للجيش الألماني في بداياته. و بعد حرب عام 1973، سلّمت إسرائيل ألمانيا دبابات تي-62 السوفيتية التي استولت عليها، مما مكّن ألمانيا من تطوير مدفع جديد لدبابة ليوبارد 2 قادر على اختراق الدبابة السوفيتية المتطورة. أما دبابة ميركافا 3 الإسرائيلية، فاعتمدت على نموذج دبابة ليوبارد 2 الألمانية. في حين يعمل أحدث طراز، ميركافا 4، بمحركات MTU الألمانية.

صنع القنبلة الذرية الإسرائيلية

لعلّ أهم مجالات التعاون العسكري، وأكثرها سرية، يتعلق بالقنبلة الذرية الإسرائيلية. يُعتقد يقيناً أن إسرائيل تمتلك ما لا يقل عن 90 رأساً نووياً، على الرغم من أنها ما اعترفت قط بذلك رسمياً الأمر الذي جعلها القوة النووية الوحيدة في الشرق الأوسط. هناك العديد من المؤشرات على أن ألمانيا، وهي دولة غير نووية، شاركت في تطوير أو على الأقل في تمويل القنبلة الذرية الإسرائيلية..

ذكر مارفيكي دفعة خاصة قدرها ملياري مارك ألماني منحتها لمانيا لإسرائيل في مايو 1961. ونظرًا 'لحجم المبلغ وحساسيات السياسة الخارجية، تم الاتفاق على السرية'. هانز روهل، الذي شغل مناصب رفيعة في وزارة الدفاع وحلف شمال الأطلسي آنذاك، مقتنع بأن هذه الأموال ذهبت لتمويل البرنامج النووي الإسرائيلي. ففي عام 2015، كتب في صحيفة دي فيلت أن مجمع المفاعلات في مدينة ديمونا الصحراوية، الذي شاركت فرنسا في بنائه، مُوّل من قِبل ألمانيا. أشارت الملفات إلى تمويل 'مصنع نسيج،' ما بُني قط، و'محطة تحلية مياه نووية'. وكثيراً ما استُخدم مصطلح 'مصنع نسيج' في إسرائيل كاسم رمزي للمنشآت النووية.

وما ثبت ما إذا كانت ألمانيا قد تعاونت تقنياً أيضاً مع إسرائيل في تطوير القنبلة الذرية. لكن الشكوك منطقية تمامًا. رغب وزير الدفاع فرانز جوزيف شتراوس، القوة الدافعة وراء التعاون العسكري، بشدة في الحصول على قنبلة ذرية ألمانية. وفي عام 1957، أبرم اتفاقاً سرياً مع وزير الدفاع الفرنسي بشأن التطوير المشترك للأسلحة النووية.

لكن شتراوس عجز عن التغلب على المعارضة الشعبية العارمة. ففي عام 1962، أُجبر على الاستقالة على خلفية 'فضيحة شبيغل'، بعد أن أمر باعتقال رودولف أوغشتاين، ناشر مجلة 'دير شبيغل' الأسبوعية واسعة الانتشار، في إسبانيا في عهد فرانكو لنشره مقالاً ناقداً للجيش الألماني.

لم ينتهِ التعاون النووي باستقالة شتراوس. فبين عامي 1999 و2018، سلمت ألمانيا ست غواصات دولفين نووية إلى إسرائيل، و مولتها أيضاً بشكل كبير. ومن المقرر هذا العام تسليم أول نسخة مُحدثة من غواصات داكار. تضمن هذه الغواصات قدرة إسرائيل على شن ضربة نووية ثانية. ولا يزال بإمكانها إطلاق قنابل نووية حتى لو دُمرت البلاد نفسها بشكل كبير.

تطور العلاقات الألمانية الإسرائيلية

تتبع مارفيكي العلاقات الألمانية الإسرائيلية حتى يومنا هذا. فقد خضعت هذه العلاقات لتقلبات سياسية، لكنها ظلت وثيقة على الدوام.

وفي عام 1967، حلّت الولايات المتحدة محل ألمانيا كأهم داعم لإسرائيل. وكانت هناك أسبابٌ متعددة لذلك. ففي البداية، امتنعت الولايات المتحدة، علناُ على الأقل، عن دعم الدولة الصهيونية. وبعد تأسيسها، استمرت إسرائيل في التعاون الوثيق مع القوى الاستعمارية التقليدية، بريطانيا وفرنسا، في مواجهة الحركة القومية العربية المتنامية.

عندما أمم جمال عبد الناصر قناة السويس عام 1956، دعم الجيش الإسرائيلي الهجوم البريطاني الفرنسي على مصر. لكن الولايات المتحدة فرضت نهاية للحرب في غضون أيام قليلة، موضحةً من هي القوة العظمى المهيمنة الجديدة في الشرق الأوسط. ومنذ ذلك الحين، اعتمدت إسرائيل على علاقات وثيقة مع الإمبريالية الأمريكية، التي أصبحت القوة الحامية الرئيسية للدولة الصهيونية بعد انتصار إسرائيل في حرب حزيران عام 1967.

على النقيض من ذلك، فترت العلاقات الألمانية الإسرائيلية. فبما أن ألمانيا حصلت على 71% من نفطها من الدول العربية في أوائل العقد الثامن القرن الماضي، فإنها لم ترغب في تعريض علاقاتها معها للخطر. كما أن سياسة ويلي براندت تجاه الشرق الأوسط، إقامة علاقات سياسية واقتصادية مع جمهورية ألمانيا الديمقراطية ودول أخرى في أوروبا الشرقية حافظت على علاقات وثيقة مع الحكومات العربية، عملت أيضاً في ذلك الاتجاه. ومع ذلك، استمر التعاون العسكري والاقتصادي مع إسرائيل، حتى لو ما أُعلن عنه على نطاق واسع.

في العقد الثامن من القرن الماضي، اكتشفت ألمانيا أيضًا القضية الفلسطينية. ففي عام 1974، تحدث السفير الألماني لدى الأمم المتحدة لأول مرة عن حق الفلسطينيين في تقرير المصير. وفي عام 1979، التقى رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي (SPD) والمستشار السابق ويلي براندت بزعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في فيينا. وفي العقد الأخير من القرن العشرين أصبحت ألمانيا والاتحاد الأوروبي الداعمين الماليين الرئيسيين لعملية أوسلو.

ومثل 'المصالحة' مع إسرائيل، خدم الالتزام تجاه الفلسطينيين أيضًا المصالح الإمبريالية الألمانية. كتب مارفيكي: 'يُظهر التاريخ أنه لم يكن من قبيل المصادفة أن تفتح الحكومة الفيدرالية آذانها للمخاوف الفلسطينية في نفس اللحظة التي اكتشفت فيها الدول العربية المصدرة للنفط اعتماد أوروبا على الطاقة كوسيلة للضغط'. فمن خلال دعم السلطة الفلسطينية، تمول ألمانيا أيضاً أكثر العناصر فساداً في المجتمع الفلسطيني، الذين حافظوا على النظام في الأراضي المحتلة لصالح إسرائيل.

بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، توطدت العلاقات بين ألمانيا وإسرائيل. ما عادت ألمانيا مضطرة لإبداء أي اعتبار للأنظمة العربية، التي ما عادت قادرة على المناورة بين الشرق والغرب، وتحولت أكثر فأكثر نحو اليمين. شرعت الولايات المتحدة في إخضاع الشرق الأوسط لسيطرتها المباشرة من خلال سلسلة من الحروب المتواصلة، بدعم علني أو غير مباشر من ألمانيا وقوى الناتو الأخرى. لعبت إسرائيل دوراً محورياً كرأس جسر للقوى الإمبريالية في الشرق الأوسط.

وعلى هذه الخلفية، أعلنت المستشارة ميركل أن أمن إسرائيل مسألة 'مصلحة الدولة الألمانية' في عام 2008. بالإضافة إلى المصالح الإمبريالية والعسكرية، لعبت المصالح الاقتصادية أيضاً دوراً، فحتى عام 2009، كانت ألمانيا ثاني أهم شريك تجاري لإسرائيل بعد الولايات المتحدة، وبعد ذلك ثالث أهم شريك لها بعد الصين. وكما رأينا، ما كان لإعلان ميركل أي علاقة بالتعويضات أو التكفير عن المحرقة.

عدم فهم صراع الشرق الأوسط

يُعدّ كتاب مارفيكي إسهاماً مهماً في كشف غموض 'السلطة الحكومية' الألمانية، ولذلك فهو جديرٌ بالقراءة. مع ذلك، لن يجد المرء فيه فهماً لصراع الشرق الأوسط أو مخرجاً منه، كما أقرّ المؤلف نفسه. انتهي الفصل الأخير بعبارة: 'النتيجة هي وضعٌ لا يُطاق لجميع الأطراف، ولا مفرّ منه حالياً'.

يكمن سبب هذا الموقف المتشائم في مفاهيم ما بعد الحداثة التي اعتمد عليها مارفيكي. ركّز عمله على 'الصراع على السرديات' و'صراع العقول' و'جدل الذاكرة'. وقلل من شأن المصالح الإمبريالية والقوى الاجتماعية التي تُشكّل أساس صراع الشرق الأوسط أو تجاهله، بالإضافة إلى بُعده الجيوسياسي.

ما انتقد مارفيكي الصهيونية إلى حد كبير. في 'ملحق' كتبه بعد اندلاع حرب غزة الأخيرة، وصف 'القراءة المناهضة للاستعمار البحتة للصراع الإسرائيلي الفلسطيني' بأنها 'مميتة' لأن 'الإسرائيليين اليوم طُردوا إما من أوروبا أو من الدول العربية'. وأعلن: 'الوطن الأم للإسرائيليين يُسمى إسرائيل'. إنهم، 'باستخدام مصطلح من نظرية ما بعد الاستعمار، سكان أصليون'. ولذلك، 'لا يوجد سوى حل واقعي واحد ممكن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني: تقسيم البلاد إلى دولتين قوميتين'. ومع ذلك أقرّ بأن 'مثل هذا الحل أقل واقعية اليوم من أي وقت مضى'.

في الواقع، إن جرائم الحرب التي ارتكبها نظام نتنياهو متأصلة بالفعل في الصهيونية. عندما ظهرت الصهيونية في شكلها الحديث في نهاية القرن التاسع عشر، كانت موجهة ضد منظور الاشتراكية، الذي كان له في ذلك الوقت تأثير واسع بين العمال والمثقفين اليهود. ربطت الاشتراكية التغلب على معاداة السامية والتمييز ضد اليهود بتحرر الطبقة العاملة وإلغاء المجتمع الطبقي الرأسمالي. قاومت الصهيونية تحرير اليهود من خلال تضامن الطبقة العاملة الدولية، بتأسيس دولة قومية يهودية بالتحالف مع القوى الإمبريالية الرجعية.

كان هذا طريقاً مسدوداً. لطالما أدرك الصهاينة البارزون أنهم لا يستطيعون تحقيق هدفهم إلا بطرد السكان الفلسطينيين وبدعم من قوة إمبريالية أو أخرى. دعا فلاديمير جابوتنسكي، أحد الآباء الفكريين لحكام إسرائيل اليوم، إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين كحصن منيع للإمبريالية البريطانية.

كتب جابوتنسكي عام 1934: 'لن تُحقق فلسطين 'أهميتها للمصالح الإمبريالية البريطانية' إلا إذا 'انفصلت عن كونها دولة عربية'. 'إذا بقيت فلسطين عربية، فإنها ستتجه نحو المسار العربي' وستزيل 'كل آثار النفوذ الأوروبي'. 'لكن فلسطين ذات الأغلبية اليهودية، فلسطين كدولة يهودية، محاطة من جميع الجهات بالدول العربية، ستسعى دائماً، حرصاً على الحفاظ على ذاتها، إلى الاعتماد على إمبراطورية قوية غير عربية وغير إسلامية'. كان ذلك 'أساساً كادت العناية الإلهية أن تُرسي دعائمه لتحالف دائم بين إنجلترا وفلسطين يهودية (ولكن يهودية فقط)'.

برزت إسرائيل كبؤرة استعمارية في الشرق الأوسط، ولا تزال كذلك حتى اليوم. كتب ديفيد نورث عن هذا في كتابه 'منطق الصهيونية: من الأسطورة القومية إلى إبادة غزة'، والذي أُخذ منه أيضاً الاقتباس المذكور أعلاه من جابوتنسكي:

يرتبط الحفاظ على دولة الفصل العنصري اليهودية، التي تقمع الشعب الفلسطيني بعنف، بينما تتجه داخلياً نحو الفاشية، ارتباطاً وثيقاً بدور إسرائيل كركيزة أساسية للإمبريالية في الشرق الأوسط. وبصفتها حامية عسكرية ضخمة للإمبريالية الأمريكية، لا بد من نشرها في جميع الحروب التي تُشعلها واشنطن، مع عواقب وخيمة في نهاية المطاف.

إن إنكار مارويتسكي لهذه الحقيقة، بحجة أن الإسرائيليين طُردوا من أوروبا ودول أخرى وليس لديهم وطن آخر، لا يُغير شيئاً. ومع ذلك، فمن الصحيح أن صعود الفاشية وكارثة المحرقة هما ما منح الصهيونية، التي كانت في السابق ظاهرة سياسية هامشية، الدعم اللازم لوضع خططها موضع التنفيذ. ونقتبس من ديفيد نورث مرة أخرى:

كان قيام الدولة الصهيونية نتيجةً مباشرة للهزائم التي مُنيت بها الطبقة العاملة في العقدين الثالث والرابع من القرن الماضي نتيجةً لخيانات الستالينية و الاشتراكية الديمقراطية. لولا حشود النازحين، والناجين من معسكرات الاعتقال النازية، والانحطاط السياسي وفقدان الثقة في منظور الاشتراكية، لما كان لدى القادة الصهاينة العدد الكافي من الناس لشن حرب إرهابية ضد الشعب الفلسطيني، وتهجيرهم من ديارهم وقراهم، وإقامة دولة قومية يهودية بأساليب إجرامية في جوهرها.

لقد أثبتت الدولة الصهيونية أنها طريق مسدود مأساوي. إن الجرائم التي ترتكبها أمام أعين العالم في غزة والضفة الغربية جعلتها منبوذة، ومحتقرة من قبل غالبية البشرية.

لن يغير حل الدولتين شيئا. سيُبقي الدولة الصهيونية معقلاً إمبريالياً، ويُؤجّل الصراع مع الفلسطينيين، ويُحيلهم إلى دولة مصغّرة غير قابلة للاستمرار اقتصادياً ولا سياسياً.

السبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو دولة فلسطينية علمانية ديمقراطية، يعيش فيها اليهود والفلسطينيون وأبناء الأصول والأديان الأخرى معاً على قدم المساواة. لا يُمكن إقامة دولة فلسطينية كهذه إلا على أساس اشتراكي. يتطلب ذلك توحيد الطبقة العاملة والجماهير المُضطهدة في الشرق الأوسط في النضال ضد القوى الإمبريالية والنظام الصهيوني والحكام العرب الإقطاعيين والبرجوازيين. يجب أن تكون جزء من الجمهوريات الاشتراكية المُتحدة في جميع أنحاء الشرق الأوسط والعالم.

Loading